فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عجيبة:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا}.
قلت: {مختلفًا}: نعت {ثمرات}. و{مختلف ألوانه}: صفة لمحذوف، أي: صنف مختلف.
يقول الحق جلّ جلاله: {ألم تَرَ أن الله أنزلَ من السماء ماءً فأخرجنا به} بالماء {ثمراتٍ مختلفًا ألوانُها} أي: أجناسها، كالرمان، والتفاح، والتين، والعنب، وغيرها مما لا يُحصى، أو: ألوانها: هيئاتها من الحُمرة والصفرة ونحوهما.
{ومن الجبال جُدَد} طُرق مختلفة اللون. جمع: جُدَّة، كمُدَّةٍ ومُدَدٍ. والجُدة: الطريقة والخطة، تكون في الجبل، تخالف لون ما يليها. وكل طريقة من سواد أو بياض فهي جُدة. قاله الهروي. وهي مبتدأ وخبر، أي: وطرق {بِيض وحُمْرٌ} كائنة من الجبال.
{وغرابيبُ سود} أي: ومنها غرابيب سود، أي: ومن الطرق سود غرابيب؛ جمع: غربيب، وهي الذي أبعد في السواد وأغرب، ومنه: الغراب. قال الهروي: هي الجواد ذوات الصخور السود، والغربيب: شديد السواد. اهـ.
وفي الصحاح: تقول هذا أَسود غربيب، أي: شديد السواد، وإذا قلت: غرابيب سود؛ تجعل السود بدلًا من غرابيب؛ لأن توكيد الألوان لا يتقدم. اهـ.
تقول: أصفر فاقع، وأسود حالك، ولا يتقدم الوصف، ونقل الكواشي عن أبي عبيد: أن في الآية تقديمًا وتأخيرًا، تقديره: وسود غرابيب. وفائدته: أن يكون المؤكد مضمرًا، والمظهر تفسيرًا له، فيدل على الاعتناء به، لكونهما معًا يدلان على معنىً واحد. اهـ.
ولا بد من تقدير حذف مضاعف في قوله: {ومن الجبال جُدَد} أي: من الجبال ذو جدد بيض، وحمر، وسود غرابيب؛ حتى يئول إلى قولك: ومن الجبال مختلف ألوانه، كما قال: {ثمرات مختلفًا ألوانها}.
{ومن الناس والدوابِّ والأنعامِ مختلفٌ ألوانه} أي: ومنهم صنفٌ مختلف ألوانه بالحمرة والصفرة والبياض والسواد.
{كذلك} أي: كاختلاف الثمرات والجبال. قال القشيري: تخصيص الفعل بهيئته وألوانه من أدلة قصد الفاعل وبرهانه. فإتقان الفعل وإحكامه شواهد الصنع وإعلامه. وكذلك أيضًا الناس والدواب والأنعام، بل جميع المخلوقات، متجانس الأعيان، مختلف الصفات، وهو دليل ثبوت منشئها بنعت الجلال ه.
الإشارة: ألم تر أن الله أنزل من سماء الغيوب ماء الواردات الإلهية، فأخرجنا به ثمرات، وهي العلوم والأذواق والوجدان، مختلف ألوانها، فمنها علوم الشرائع، وتحقيق مسائلها، ومنها علم العقائد، وتشييد أدلتها وبراهينها، ومنها علوم اللسان بإتقان قواعدها، ومنها علم القلوب وتصفيتها من العيوب، وهو علم الطريقة، ومنها علم الأسرار، وهي أسرار الذات والصفات، وهو علم الحقيقة. ومن جبال العقل طُرق بيض، وحمر، وسود، فالبيض: طرق الكشف والبيان، وحلاوة الذوق والوجدان، والحُمر: طُرق الدليل والبرهان؛ لأنها قد تظهر وتخفى، والسود الغرابيب: عقول الفلاسفة والطبائعيين، أهل الحدس والتخمين، إذا لم يقتدوا بالكتاب المبين، وشرعِ النبي الأمين.
أولئك هم الضالون المضلُّون.
ولمّا كان النظر في هذه المصنوعات إنما يكون بالعلم، ذكر أهله، فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ}.
يقول الحق جلّ جلاله: {إِنما يخشى اللهَ} أي: يخافه {من عباده العلماءُ} لأنهم هم الذين يتفكرون في عجائب مصنوعاته، ودلائل قدرته، فيعرفون عظمته وكبرياءه، وجلاله وجماله، ويتفكرون فيما أعد الله لمَن عصاه من العذاب ومناقشة الحساب، وفيما أعد لمَن خافه وأطاعه من الثواب، وحسن المآب، فيزدادون خشية، ورهبة، ومحبة، ورغبة في طاعته، وموجب رضوانه، دون مَن عداهم من الجهّال. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «أعلمكم بالله أشدكم له خشية» وقال صلى الله عليه وسلم: «رأس الحكمة مخافة الله».
وقال الربيع بن أنس: مَن لم يَخشَ الله فليس بعالم، وقال ابن عباس في تفسير الآية: كفى بالزهد عِلمًا، وقال ابن مسعود: كفى بخشية الله عِلمًا، وبالاعتذار جهلًا. وفي الحِكَم: خيرُ علم ما كانت الخشية معه. وقال في التنوير: اعلم أن العلم حيثما تكرر في الكتاب والسُنَّة؛ فإنما المراد به العلم النافع، الذي تٌقارنه الخشية، وتكتنفه المخافة. قال تعالى: {إِنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ} بيّن سبحانه أن الخشية تلازم العلم، وفهم من هذا أن العلماء إنما هم أهل الخشية. اهـ.
قال الشيخ ابن عباد رضي الله عنه: واعلم أن العلم النافع، المتفق عليه فيما سلف وخلف، إنما هو العلم الذي يؤدي بصاحبه إلى الخوف والخشية، وملازمة التواضع والذلة، والتخلُّق بأخلاق الإيمان، إلى ما يتبع ذلك من بغض الدنيا والزهادة فيها، وإيثار الآخرة عليها، ولزوم الأدب بين يدي الله تعالى، إلى غير ذلك من الصفات العلية، والمناحي السنية. اهـ.
وقال في لطائف المنن: شاهد العلم، الذي هو مطلب الله تعالى: الخشية، وشاهد الخشية: موافقة الأمر، فأما علم تكون معه الرغبة في الدنيا، والتملُّق لأربابها، وصرف الهمة لاكتسابها، والجمع، والادخار، والمباهاة، والاستكثار، وطول الأمل، ونسيان الآخرة، فما أبعد مَنْ هذا نعته مِنْ أن يكون من ورثة الأنبياء! وهل ينتقل الشيء الموروث إلى الوارث إلا بالصفة التي كان بها عند الموروث عنه. ومثل مَنْ هذه الأوصاف أوصافه من العلماء كالشمعة، تُضيء على غيرها، وهي تحرق نفسها. جعل الله العلم الذي علمه من هذا وصفه حجة عليه، وسببًا في تكثير العقوبة لديه. اهـ.
وتقديم اسم الله تعالى، وتأخير العلماء، يُؤذِن أن معناه: إن الذين يخشون الله من عباده العلماء دون غيرهم. ولو عكس، بأن قال: إنما يخشى العلماءُ الله، لكان المعنى: أنهم لا يخشون إلا الله.
وقرأ أبو حنيفة وعمر بن عبد العزيز: بنصب {العلماء} ورفع {الله}.
والخشية في هذه القراءة بمعنى التعظيم. والمعنى: إنما يعظم اللهُ من عباده العلماءَ. وعنه صلى الله عليه وسلم: «يقول الله للعلماء يوم القيامة إِذا قَعَدَ على كُرسيِّه، يفصل قضاء عباده: إني لم أجعلْ عِلْمي وحِلْمي فِيكُمْ؛ إلا وأنا أُريدُ أن أغفرَ لكم، على ما كان فيكم، ولا أبالي» قال المنذري: انظر إلى قوله: «علمي وحلمي» يتضح لك بإضافته إليه أنه لم يرد به علم أكثر أهل الزمان المجرّد عن العلم به والإخلاص. وفي رواية: «لم أجعل حكمتي فيكم إلا لخير أُريده بكم، ادخلوا الجنة بما فيكم». وقال عليه الصلاة والسلام: «يُوزن يوم القيامة مداد العلماء ودماء الشهداء، فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء».
{إِن الله عزيزٌ غفور} هو تعليل لوجوب الخشية؛ لدلالته على عقوبة العصاة؛ لعزته وغلبته، وإثابة أهل الطاعة، والعفو عنهم؛ لعظيم غفرانه، والمعاقب والمثيب حقه أن يُخشى.
الإشارة: العلماء على قسمين: علماء بأحكام الله، وعلماء بالله، العلماء بالأحكام يخشون غضبه وعقابه، والعلماء بالله يخشون إبعاده واحتجابه، العلماء بالأحكام يتقون مواطن الآثام، والعلماء بالله يتقون سوء الأدب في حضرة الملك العلاّم. فخشية العلماء بالله أرق وأشد. العلماء بالله أخذوا علمهم من الله، والعلماء بالأحكام أخذوا علمهم عن الأموات. قال الشيخ أبو يزيد رضي الله عنه: في علماء أهل الرواية: مساكين أخذوا علمهم ميت عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. اهـ.
والفرق بين الخوف والرهبة والخشية: أن الخوف من العقاب، والرهبة من العتاب، والخشية من الإبعاد. قال القشيري: والفرق بين الخشية والرهبة: أنَّ الرهبة: خوفٌ يُوجِبُ هَرَبَ صاحبه، فيجري في تفرقته. والخشية إذا حصلت كَبَحَت صاحبها، فيبقى مع الله. فقدمت الخشية على الرهبة في الجملة، والخوف قضية الإيمان، قال تعالى: {وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 175]. والخشية قضية العلم والهيبة. اهـ.
ثم قال: العالم يخاف تقصيره في حقِّ ربه، والعارف يخشى من سوء أدبه وترْك احترامٍ، وانبساط في غير وقت، بإطلاق لَفْظٍ، أو تَرخِيص بِترْكِ الأَوْلى. اهـ.
قال الورتجبي: الخوف عموم، والخشية خصوص. وقد قرن سبحانه الخشية بالعلم، أي: العلم بالله وجلاله وقدره وربوبيته وعبوديته له. وحقيقة الخشية: وقوع إجلال الحق في قلوب العارفين، ممزوجًا بسنا التعظيم، ورؤية الكبرياء والعظمة، ولا يحصل ذلك إلا لمَن شاهد القدم، والأزل، والبقاء، والأبد، فمَن زاد علمه بالله زاد خشية، لقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أعرفكم بالله وأخشاكم منه» اهـ. وفي الحديث: قيل يا رسول الله: أي الأعمال أفضل؟ قال: «العلم» قيل: أيُّ العلم؟ قال: «العلم بالله سبحانه» وقال صلى الله عليه وسلم: «ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعُه؟ والله إني لأعلمُكم بالله، وأشدُّكم له خشيةً».
ثم قال: عن جعفر الصادق: العلم أمْرُ تركِ الحرمة في العبادات، وترك الحرمة في الحياء من الحق، وترك الحرمة في متابعة الرسول، وترك الحرمة في خدمة الأولياء الصدّيقين. اهـ.
ومعنى كلامه: أن العلم الحقيقي هو الذي يأمن صاحِبُه من انتهاك حرمة العبادات، ومِن هتْك حرمة الاحتشام من الله ورسوله وأوليائه. ومَن أراد من العلماء السلامة من الاغترار بالعلم فليطالع شرح ابن عباد، في قول الحِكَم: العلم إن قارنته الخشية فلك، وإلا، فعليك. وبالله التوفيق. اهـ.

.قال عبد الكريم الخطيب:

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} الجدد: القطع، واحدتها جدّة.. ومنه جدّة البلد المعروف على ساحل البحر الأحمر من الجزيرة العربية، لأنها جدّت أي قطعت من الآكام والهضاب القائمة في هذا الموقع.. ومنه أيضا قول الشاعر:
أبى حبّى سليمى أن يبتدأ ** وأمسى حبها خلقا جديدا

أي أمسى حبها قديما، قد تقطع أديم.
والغرابيب: جمع غربيب، مثل قنديل وقناديل، وهو الشيء الحالك السواد، ومنه سمى الغراب غراب.
والآية معرض من معارض الخلق والإبداع، لقدرة اللّه سبحانه وتعال.
وفيها إلفات إلى هؤلاء السادرين في غيهم، الهائمين في ظلمات جهلهم وضلالهم، أن يقيموا وجوههم على هذا الوجود، وأن يفتحوا أبصارهم على صحفه، وأن يقرءوا ما خط على هذه الصحف من سطور، تحدث عن قدرة الخالق، وإبداعه، وعلمه، وسلطان.
وفي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوانُها} خطاب للنبىّ ولكلّ من هو أهل لهذا الخطاب، من كل ذى عين، وعق.
فهذا سطر من صحيفة الوجود، يرى فيه الناظرون ما أبدعت قدرة اللّه، وما أخرجت من هذه الأرض الهامدة ومن ترابها الأسود، من ثمرات مختلفة ألوانها وطعومها.
فمن هذا التراب الأسود، اكتست الأرض العارية الجديب، بحلة قشيبة، من الزهر، والثمر، المختلف الألوان، بين أحمر، وأصفر، وأبيض.. إلى غير ذلك مما لا حصر له من ألوا.
فمن أبدع هذا، وصوره على تلك الصور الرائعة المذهلة؟
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (60: النمل) قال تعالى: {وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ} سطور أخرى من صفحة الوجود.. يرى فيها الناظرون بألبابهم، قدرة اللّه وإبداعه في هذا الجماد الجامد، وفي الجبال الثابتة الراسخة بالذات- إنها ليست أكوانا متضخمة بلا وزن ولا حساب، بل إن يد القدرة ممسكة بكل ذرة فيها، وإن الناظر ليرى في ألوانها المختلفة من أبيض وأحمر، وأسود وما بين الأبيض والأحمر، والأسود- أن يدا قادرة، مدبرة، قد أقامتها بحساب دقيق وتدبير محكم، حيث أن وراء هذه الألوان صفات أخرى لتلك الجبال، فاللون الأبيض وراءه أحجار جبرية، على حين أن اللون الأحمر يضم أحجارا صلدة جامدة، أما اللون الأسود، ففى كيانه أحجار أشد صلابة، وأكثر احتمال.
ففى هذه الألوان علم ينفذ منه العقل إلى حقائق، ومعطيات، فيها خير كثير، ورزق موفور.. وفي هذا دعوة إلى الدراسة والبحث والتعمق إلى ما وراء ظوهر الطبيعة.. فهذه الظواهر قشور، تخفى وراءها جواهر كريمة ومعادن نفيسة.. فمن وقف عند هذه القشور، لم يقع ليده إلا التافه المتساقط من لحاء شجرة الطبيعة، وأما من تجاوز هذه القشرة، فإنه خليق بأن يملأ يديه من كل خير، ويطعم من كل ثمر.. فإذا امتد نظر الناظر إلى عالم الإنسان، والدواب، والأنعام، وجد في كل عالم صورا وأشكالا لا حصر له.
فالعالم الإنسانى مثلا.. كل إنسان عالم بذاته.. في صورته، ولونه، ولسانه، وفي مشاعره، وتفكيره، وتصوراته، وخواطره، بحيث لا يكاد يتفق إنسان وإنسان.. والدواب.. والأنعام كذلك.. كل حى منها، وإن بدا أنه قريب الشبه بغيره، فإن لكل حىّ منها صفات ظاهرة وباطنة، تميزه من غيره.
ولكن من الذي يرى هذا، ويدرك الفروق الظاهرة، أو الخفية بين هذه المخلوقات؟ إنه لا يرى هذا إلا أهل العلم، وأصحاب النظر، الذين ينظرون بعقولهم لا بعيونهم وحدها.. ولهذا جاء قوله تعالى، تعقيبا على هذه الدعوة الداعية إلى النظر في تلك الموجودات:
{إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ} فإن هذه الخشية للّه، التي تقع في القلوب، وتستولى على المشاعر، لا تجىء إلا عن علم بما للّه من جلال، وقدرة، وعلم، وحكمة.. وهذا العلم لا يحصّل إلا بالبحث الجادّ، والنظر المتأمل، والعقل الدارس المفكر، في خلق السموات والأرض، وما في السموات والأرض.
فمعرفة اللّه أولا، ثم الخشية له ثاني.
وإنه لا خشية إلا عن معرفة الذّات التي تخشى، ويخشى سلطانها، ويخاف بأسها.
وإنه لا معرفة إلا عن نظر، وتفكر، وتدب.
فمن كان أكثر معرفة للّه، وعلما بما له من صفات الكمال والجلال- كان أكثر خشية للّه، وتوقّيا لحرمات.
وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} أي أنه مع ما للّه من عزة وقوة وسلطان، فإنه سبحانه، غفور، يلقى أهل الإساءة بالمغفرة، إذا سألوا هم مغفرته، وطلبوا عفوه، والتمسوا رضاه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا}.
استئناف فيه إيضاح ما سبقه من اختلاف أحوال الناس في قبول الهدى ورفضه بسبب ما تهيأت خِلقة النفوس إليه ليظهر به أن الاختلاف بين أفراد الأصناف والأنواع ناموس جِبلِّي فَطر الله عليه مخلوقات هذا العالم الأرضي.
والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم ليدفع عنه اغتمامه من مشاهدة عدم انتفاع المشركين بالقرآن.
وضُرب اختلاف الظواهر في أفراد الصنف الواحد مثلًا لاختلاف البواطن تقريبًا للأفهام، فكان هذا الاستئناف من الاستئناف البياني لأن مثل هذا التقريب مما تشرئِبُّ إليه الأفهام عند سماع قوله: {إن الله يسمع من يشاء} [فاطر: 22].